يَبحث بين الرُكام عن بقايا حُب مدفون أو حضن مفتت فلا مجيب، يصرخ الطفل ليحتمي بحضن أُمه فيجدها جثة هامدة أو بضع بقايا لأم، فالصاروخ الغاشم أسرع من صرختك، والموت أقرب من أنفاسك، فموجةُ الطغيان عالية وحزمة الحقد عاتية، أين أبي؟ سندي وملاذي، في الجنة يا حبيبي، صوت مخنوق يخرج بين الدخان تعتليه آهات السنين ومرارة الأيام، ذاك صوت جدتي بوجهها المُجعّد وظهرها المقوس، تعال يا ولدي ارقد في حضني لتشتم رائحة والدك فَعبَقه ما زال ملتصقًا بلحمي وبقايا عظمي، يتنفس الصعداء ويسأل أين دراجتي؟ أين حقيبتي؟ أين أقلامي؟ أين حذائي الجديد؟ كنت أود أن أرتديه غداً لأخبر الجميع أن والدي قد اشترى لي حذاءً جديدًا، يا ولدي ذهب مع الذاهبين وغادر حيث لا عودة .
تتأمل العجوز عيون طفلها ويبادرها السؤال لماذا يقتلون أبي وأمي وأخوتي جميعاً ويهدمون بيتنا؟ ويعود وجه العجوز إلى مربع الموت وبدموعٍ مُنهمرة تُجيب: يا ولدي هم يقتلون ويدمون ليُسكتوا ما بين صوتي وصوتك، عقود من العذاب والتعذيب والتهجير لينتزعوا ألمي وعشقي، لينتزعوا الابتسامة، ولحظة الأمل، ليغرقوا الشمس في بحر ظلماتهم، لكن يا جدتي الشمس أشرقت من جديد لتكسو أرضنا خضرة ناعمة وتهب نسمات رقيقة تلفح وجه جدتي المجعد ليعيد الروح له، إنّه ريح محمل ببقايا أنفاس أمي، وصوت أختي الرضيعة وهي تتلمس صدر أمي لتتناول فطورها بعد أن اكتحلت عيونها بنور وجهها.
مشهد يعيشه كل غزيّ بعد كل رحلة اعتداء وعدوان على ما تبقى، حالة متكرّرة، تُبكي الرجال وتُدمي القلوب، أتعلمون مرارة فَقد سيدة زوجها وأبنائها، أتتخيّلون ماذا يعني أن يُقتل كل أطفالك وزوجتك في لحظةٍ واحدة؟ أيتخيل عقلك أن تفقد سيدة زوجها وأبناءها، أن يصحوا الأطفال على فقدان أب وأم معاً ... وتستعجبون بكاء الرجال، يا سادة لقد أَلنّــا الحديد وفَتتنا الصخور بأظافرنا وبمعول الإرادة والحب لأرضنا فسال دمنا تارة وتجمد في عروقنا تارة ولم نبكِ، هُدمت بيوتنا وهُجّرنا عن أرضنا ولم نبكِ ، لكن أن تقتل نساءنا ويدفن أطفالنا أحياء وهم يستصرخون ويستجدون العون منا، ونحن عجزة أمام صاروخ حاقد يتسلل في جنح الليل وظلماته ليسرق ابتسامة ويفتتها أشلاء ولا نبكي .
يا سادة بكاء الرجال في غزة فقط مباح ومشروع ، بكاءُ عشق وانتماء ، بكاءُ حب وولاء ، بكاء على أشلاء ، رجالنا لا يبكون إثر خسارة موقعة أو فقدان بيت أو بناية ، رجالنا تبكي فقط حين تُقَيد رُجولتهم أو يشعرون بالعجز أمام حماية أطفالهم وبناتهم ، رجالنا تبكي من حرقة الدم في عروقهم ، ألهبت مشاعرهم نخوة كامنة في وجدانهم ، رجالنا يبكون شوقاً لمن رحلوا ويستعجلون اللحاق بهم ، يبكون تسجيل أسمائهم في كشوفات لا تمر عبر بوابة عربية ، يطمحون بسفر كامل الكرامة وغير منزوع العزة ، يبيتون فيه بصحبة الحبيب محمد وبمعية صحابته الكرام .